أكتب هذا الأسبوع عن رسالتين تلقيتهما في الأسبوع الماضي. كلاهما جديرة بالتأمل والتعليق، وليست هذه الجدارة نابعة من غرابة محتوى الرسالتين وحدها، وإنما هي نابعة أيضاً من دلالة كل منهما على بعد المسلمين - لا فرق بين العامة والعلماء، دون تعميم طبعاً - عن حقائق الإسلام: الأحكام والقيم والآداب!
الرسالة الأولى جاءتني من صديق عزيز، يعمل في إحدى الهيئات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وقد أمضى معظم حياته الوظيفية فيها وعيِّن بعد تقاعده مستشاراً لها. أرسل إلي صورة من الصفحة السابعة من العدد الصادر في 18/4/2004 من جريدة تسمى "المال" حملت خبراً يقول إن وزير الطيران في مصر صرَّح "بأن قرار منع تقديم الخمور على خطوط مصر للطيران لم يكن صائباً، وإنه لا يمكن إنكار الآثار السلبية التي ترتبت عليه من حيث انخفاض أعداد الركاب، وإنه ليس هناك طيران دون خمور، ويجب اعتبارها خدمة يتم تقديمها ليس إلا، وأوضح أنه سوف يعمل على إعادة الخمور بشكل تدريجي. وقد بدأ ذلك بالفعل عندما تم تقديمها في حفل استقبال المبنى رقم 3 - كتبت بالإنجليزية Terminal 3 وكأن الكاتبة لا تعرف مرادفاً عربياً للكلمة الأجنبية!- دون أن يؤدي ذلك إلى أي تعليقات سلبية بخصوصها".!!
فأنا لم أصدّق أن الكلام المنشور في صحيفة "المال"، الذي نقلته عنها، قاله وزير مصري، ولا أستطيع أن أصدق أن وزيراً عريق الأصول المصرية، ضارب الجذور في الريف المتدين، يمكن أن يصرح بمثل هذا الكلام العجيب عن الخمر، التي يعرف صبيان المكاتب أن اسمها في الأدبيات الدينية "أم الخبائث". وأنا موقن أن الوزير الريفي الصميم يعرف مما تعلمه في صغره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة من الناس، هم عاصرها ومعتصرها - الذي يطلب أن تعصر له- وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له "حديث صحيح رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما". فكيف يمكن أن يصدق أحد أن يقبل وزير مسؤول في بلد مسلم ينص دستوره على أن الإسلام دين الدولة، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ـ كيف يقبل أن يدخل في اللعنة النبوية المرؤوسون له الذين يسأل يوم القيامة عما كلفهم به، وبل وعما سمح لهم بفعله فيما يدخل تحت سلطانه وسلطاته؟؟
ولم أصدق أن وزيراً مسؤولاً عن الطيران يدور في ظنه أن الناس تسافر لتسكر، لا لتعمل أو تستشفي، أو تستمتع ببلاد الله الواسعة(!!) حتى يقول إنه لا طيران دون خمور. وكيف يقول إنها خدمة ليس إلا وهي خدمة ملعون فاعلها وبائعها إلى آخر الأصناف المذكورة في الحديث؟؟
والقرآن الكريم جمع في الخمر ثمانية أمور لو انفرد واحد منها في شيء لكان كافياً في تحريمه: فهي قرينة الميسر والأنصاب والأزلام، وهي من عمل الشيطان، وهي مأمور باجتنابها، وفلاح المسلم معلق على هذا الاجتناب، وهي توقع العداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان يصد بها عن ذكر الله، وعن الصلاة وهي التي تنهى العبد عن الفحشاء والمنكر والبغي، والله يتهدد شارب الخمر بقوله "فهل أنتم منتهون". وليقرأ الوزير إن شاء قول الله تعالى "يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" (المائدة: 90 و91). فكيف يسوغ مع هذا النص القرآني الصريح لإنسان يعرف ما يقول أن يزعم أن تقديم الخمر خدمة ليس إلا؟؟؟؟!.
وأي وزير طيران في مصر لابد أنه سأل كيف منعت الخمر من طائرات مصر للطيران فعلم أن ذلك كان بناء على أحكام قضائية نهائية لا يسوغ لأحد مخالفتها ومصر بلد يقضي دستورها بأن سيادة القانون هي أساس الحكم فيها، ويجرم قانون عقوباتها عدم تنفيذ أحكام القضاء أياً كان نوعها، فكيف ساغ ذلك القول المنسوب إلى وزير الطيران المصري عند قائله أو عند ناشره الذي نسبه إلى الوزير؟؟.
الرسالة الثانية تلقيتها من صديق إعلامي مرموق، أرفق لي بها فتوى رسمية صادرة عن لجنة دائمة مختصة بالبحث العلمي والإفتاء في إحدى الدول الإسلامية الرائدة، يقول فيها أصحابها - وهم ثلاثة من العلماء - إن إهداء الزهور إلى المرضى "تقليد للكفار وتشبه بهم لا غير" وفيه "إنفاق للمال في غير مستحقه وخشية مما تجر إليه من الاعتقاد الفاسد بهذه الزهور من أنها من أسباب الشفاء، وبناء على ذلك فلا يجوز التعامل بالزهور على الوجه المذكور بيعاً أو شراء أو إهداء" وقالت الفتوى نفسها إن من يفعل ذلك يكون من المتأثرين بالكفار ومن ضعفاء الإيمان!! والزهور من أعظم الأشياء التي تدخل على النفس السرور. والمتأمل في بديع صنع الله فيها، على كثرتها وتنوعها، يوقن أنها دليل على قدرة الخالق العظيم، وأنها مما خلقه سبحانه لحكم نعرف منها أنها تسر عباده من أهل التأمل والذوق الراقي وتسعدهم وتدعوهم إلى الثناء عليه لجميل صنعه.
وإدخال السرور على المرضى سبيل لا يمارى فيه لرفع معنوياتهم الذي